فصل: تفسير الآيات (11- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس، والأوّل أولى.
قال الزجاج: وهذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله لأنه إنباء بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلاّ الله سبحانه {يَنصُرُ مَن يَشَاء} أن ينصره {وَهُوَ العزيز} الغالب القاهر {الرحيم} الكثير الرحمة لعباده المؤمنين.
وقيل: المراد بالرحمة هنا: الدنيوية، وهي شاملة للمسلم والكافر.
{وَعْدَ الله لاَ يُخْلفُ الله وَعْدَهُ} أي: وعد الله وعدًا لا يخلفه، وهو ظهور الروم على فارس {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن الله لا يخلف وعده، وهم الكفار، وقيل: كفار مكة على الخصوص.
{يَعْلَمُونَ ظَاهرًا مّنَ الحياة الدنيا} أي يعلمون ظاهر ما يشاهدونه من زخارف الدنيا وملاذها وأمر معاشهم وأسباب تحصيل فوائدهم الدنيوية.
وقيل: هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع.
وقيل: الظاهر: الباطل {وَهُمْ عَن الآخرة} التي هي النعمة الدائمة، واللذة الخالصة {هُمْ غافلون} لا يلتفتون إليها ولا يعدون لها ما يحتاج إليه، أو غافلون عن الإيمان بها والتصديق بمجيئها.
{أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنفُسهمْ مَّا خَلَقَ الله السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} الهمزة للإنكار عليهم، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، و{في أنفسهم} ظرف للتفكر وليس مفعولًا للتفكر والمعنى: أن أسباب التفكر حاصلة لهم، وهي أنفسهم لو تفكروا فيها كما ينبغي لعلموا وحدانية الله وصدق أنبيائه.
وقيل: إنها مفعول للتفكر.
والمعنى: أو لم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئًا؟ و{ما} في: {ما خلق الله} نافية، أي لم يخلقها إلاّ بالحق الثابت الذي يحق ثبوته، أو هي اسم في محل نصب على إسقاط الخافض، أي بما خلق الله، والعامل فيها العلم الذي يؤدي إليه التفكر.
وقال الزجاج: في الكلام حذف، أي فيعلموا، فجعل {ما} معمولة للفعل المقدّر لا للعلم المدلول: عليه، والباء في: {إلاَّ بالحق} إما للسببية، أو هي ومجرورها في محل نصب على الحال، أي ملتبسة بالحق.
قال الفراء: معناه: إلاّ للحق، أي للثواب، والعقاب.
وقيل: بالحق: بالعدل.
وقيل: بالحكمة.
وقيل: بالحق، أي أنه هو الحق وللحق خلقها {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} معطوف على الحق، أي وبأجل مسمى للسماوات والأرض وما بينهما تنتهي إليه، وهو يوم القيامة، وفي هذا تنبيه على الفناء، وأن لكل مخلوق أجلًا لا يجاوزه.
وقيل: معنى {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أنه خلق ما خلق في وقت سماه لخلق ذلك الشيء {وَإنَّ كَثيرًا مّنَ الناس بلقَاء رَبّهمْ لكافرون} أي لكافرون بالبعث بعد الموت، واللام هي المؤكدة، والمراد بهؤلاء: الكفار على الإطلاق، أو كفار مكة.
{أَوَ لَمْ يَسيرُوا في الأرض} الاستفهام للتقريع والتوبيخ لعدم تفكرهم في الآثار وتأملهم لمواقع الاعتبار، والفاء في: {فَيَنظُرُوا} للعطف على {يسيروا} داخل تحت ما تضمنه الاستفهام من التقريع والتوبيخ، والمعنى: أنهم قد ساروا وشاهدوا {كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قَبْلهمْ} من طوائف الكفار الذين أهلكهم الله بسبب كفرهم بالله، وجحودهم للحق وتكذيبهم للرسل، وجملة: {كَانُوا أَشَدَّ منْهُمْ قُوَّةً} مبينة للكيفية التي كانوا عليها، وأنهم أقدر من كفار مكة ومن تابعهم على الأمور الدنيوية، ومعنى {وَأَثَارُوا الأرض} حرثوها وقلبوها للزراعة وزاولوا أسباب ذلك، ولم يكن أهل مكة أهل حرث {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ ممَّا عَمَرُوهَا} أي عمروها عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء؛ لأن أولئك كانوا أطول منهم أعمارًا، وأقوى أجسامًا، وأكثر تحصيلًا لأسباب المعاش، فعمروا الأرض بالأبنية والزراعة والغرس {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم} بالبينات، أي المعجزات.
وقيل: بالأحكام الشرعية {فَمَا كَانَ الله ليَظْلمَهُمْ} بتعذيبهم على غير ذنب {ولكن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلمُونَ} بالكفر والتكذيب.
{ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أَسَاءُوا} أي عملوا السيئات من الشرك والمعاصي {السُوأَى} هي فعلى من السوء ثأنيث الأسوأ، وهو: الأقبح، أي كان عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات.
وقيل: هي اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة، ويجوز أن تكون مصدرًا كالبشرى والذكرى، وصفت به العقوبة مبالغة.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {عاقبة} بالرفع على أنها اسم كان، وتذكير الفعل لكون تأنيثها مجازيًا، والخبر السوأى، أي الفعلة أو الخصلة أو العقوبة السوأى أو الخبر {أَن كَذَّبُوا} أي: كان آخر أمرهم التكذيب، وقرأ الباقون: {عاقبة} بالنصب على خبر كان، والاسم السوأى، أو أن كذبوا، ويكون التقدير: ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا، والسوأى مصدر أساؤوا، أو صفة لمحذوف.
وقال الكسائي: إن قوله: {أَن كَذَّبُوا} في محل نصب على العلة، أي لأن كذبوا بآيات الله التي أنزلها على رسله، أو بأن كذبوا، ومن القائلين بأن السوأى: جهنم، الفراء والزجاج وابن قتيبة وأكثر المفسرين، وسميت: سوأى لكونها تسوء صاحبها.
قال الزجاج: المعنى: ثم كان عاقبة الذين أشركوا النار بتكذيبهم آيات الله واستهزائهم، وجملة: {وَكَانُوا بهَا يَسْتَهْزئونَ} عطف على كذبوا، داخلة معه في حكم العلية على أحد القولين، أو في حكم الاسمية لكان، أو الخبرية لها على القول الآخر.
وقد أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: {الم غُلبَت الروم} قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم، لأنهم كانوا أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنهم سيغلبون» فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلًا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل بينهم أجلًا خمس سنين فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ألا جعلته» أراه قال: «دون العشر» فظهرت الروم بعد ذلك، فذلك قوله: {الم غُلبَت الروم} فغلبت، ثم غلبت بعد بقول الله: {للَّه الأمر من قَبْلُ وَمن بَعْدُ وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بنَصْر الله} قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر.
وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن البراء بن عازب نحوه، وزاد: أنه لما مضى الأجل ولم تغلب الروم فارس، ساء النبيّ ما جعله أبو بكر من المدّة وكرهه وقال: «ما دعاك إلى هذا؟» قال: تصديقًا لله ولرسوله فقال: «تعرّض لهم وأعظم الخطة واجعله إلى بضع سنين» فأتاهم أبو بكر فقال: هل لكم في العود، فإن العود أحمد؟ قالوا: نعم، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا رومية، فقمر أبو بكر، فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «هذا السحت تصدّق به».
وأخرج الترمذي وصححه، والدارقطني في الأفراد، والطبراني وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، والبيهقي في الشعب عن نيار ابن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت {الم غُلبَت الروم} الآية كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم، لأنهم وإياهم أهل الكتاب، وفي ذلك يقول الله: {وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بنَصْر الله} وكانت قريش تحبّ ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة: {الم غُلبَت الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مّن بَعْد غَلَبهمْ سَيَغْلبُونَ في بضْع سنينَ} فقال ناس من قريش لأبي بكر: ذلك بيننا وبينكم يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطًا ننتهي إليه، قال: فسموا بينهم ستّ سنين، فمضت الستّ قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ستّ سنين؛ لأن الله قال: {في بضْع سنينَ} فأسلم عند ذلك ناس كثير.
وأخرج الترمذي وحسنه، وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: «ألا احتطت يا أبا بكر، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع» وأخرج البخاري عنه في تاريخه نحوه.
وأخرج الفريابي، والترمذي وحسنه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر ظهر الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت: {الم غُلبَت الروم} قرأها بالنصب يعني للغين على البناء للفاعل إلى قوله: {يَفْرَحُ المؤمنون بنَصْر الله}.
قال: ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس، وهذه الرواية مفسرة لقراءة أبي سعيد ومن معه.
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي الدرداء قال: سيجيء أقوام يقرؤون: {الم غَلبَت الروم} يعني: بفتح الغين، وإنما هي {غلبت} يعني: بضمها، وفي الباب روايات وما ذكرناه يغني عما سواه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {يَعْلَمُونَ ظَاهرًا مّنَ الحياة الدنيا} يعني: معايشهم، متى يغرسون؟ ومتى يزرعون؟ ومتى يحصدون؟ وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله: {كَانُوا أَشَدَّ منْهُمْ قُوَّةً} قال: كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسهمْ}.
إنَّ مَنْ نَظَرَ حقَّ النظر، ووَضَعَ النظر موضعَه أثمر له العلم واجبًا، فإذا استبصر بنور اليقين أحكامَ الغائبات، وعَلمَ موعوده الصادق في المستأنف- نجا عن كَدّ التردد والتجويز فسبيلُ مَنْ صحا عقلُه ألا يجنحَ إلى التقصير فيما به كمال سكونه.
{أَوَلَمْ يَسيرُوا في الْأَرْض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقبَةُ الَّذينَ منْ قَبْلهمْ}.
سَيْرُ النفوس في أقطار الأرض ومناكبها لأداء العبادات، وسَيْرُ القلوب بجَولاَن الفكْر في جميع المخلوقات، وغايته الظَّفَرُ بحقائق العلوم التي توجبُ ثلج الصدر-ثم تلك العلوم على درجات. وسير الأرواح في ميادين الغيب بنعت حرق سرادقات الملكوت، وقصاراه الوصولُ إلى محلّ الشهود واستيلاء سلطان الحقيقة. وسير الأشرار بالترقى عن الحدْثان بأَسْرها، والتحقق أولًا بالصفات، ثم بالخمود بالكلية عمَّا سوى الحقّ.
{ثُمَّ كَانَ عَاقبَةَ الَّذينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بآيَات اللَّه وَكَانُوا بهَا يَسْتَهْزئُونَ (10)}.
مَنْ زَرَعَ الشوكَ لم يحصُدْ الوَرْدَ، ومَنْ استنبت الحشيشَ لم يقطف الثمار، ومَنْ سَلَكَ طريق الغىّ لم يَحْلُلْ بساحة الرشد. اهـ.

.تفسير الآيات (11- 16):

قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ ثُمَّ إلَيْه تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلسُ الْمُجْرمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ منْ شُرَكَائهمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بشُرَكَائهمْ كَافرينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَات فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتنَا وَلقَاء الْآخرَة فَأُولَئكَ في الْعَذَاب مُحْضَرُونَ (16)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان حاصل ما مضى أنه سبحانه وتعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وكان للتصريح مع النفس حالة ليست لغيره، قال ذاكرًا نتيجة ما مضى ومحصله تصريحًا بالمقصود وتلخيصًا للدليل: {الله} أي المحيط علمًا وقدرة {يبدأ الخلق} أي بدا منه ما رأيتم وهو يجدد في كل حين ما يريد من ذلك كما تشاهدون {ثم يعيده} بعد ما يبيده، وترك توكيده إشارة إلى أنه غني عنه لأنه من القضايا المسلمة أن من اخترع شيئًا كان لا محالة قادرًا على إعادته.
ولما كان الجزاء أمرًا مهولًا، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم إليه} أي لا إلى غيره {ترجعون} معنى في أموركم كلها في الدنيا وإن كنتم لقصور النظر تنسبونها إلى الأسباب، وحسا بعد قيام الساعة، وقراءة الجماعة بالالتفات إلى الخطاب أبلغ لأنها أنص على المقصود، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بالياء التحتانية على النسق الماضي.
ولما ذكر الرجوع، أتبعه بعض أحواله فقال: {ويوم تقوم الساعة} سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما فيهم من العظماء والكبراء والرؤساء {يبلس} أي يسكت ويسكن يأسًا وتحيرًا على غاية الذل- بما أشار إليه تذكير الفعل مع التجدد والاستمرار بما أومأ إليه المضارع {المجرمون} الذين وصلوا من الدنيا ما من حقه أن يقطع لفنائه، وقطعوا من أسباب الآخرة ما من حقه أن يوصل لبقائه، وكانوا في غاية اللبس في الجدل ومعرفة كل ما يغيظ الخصم من القول والفعل والتمايل والتضاحك عند سكوت الخصم تعجبًا من جريانهم في هذيانهم سرورًا منهم بإسكاته ليظن بعض من رآه أنه انقطع وأن الحجة لهم.
ولما كان الساكت ربما أغناه عن الكلام غيره، نفى ذلك بقوله محققًا له بجعله ماضيًا: {ولم يكن} ولما كان المقام لتحقيرهم بتحقير شركائهم رتب نفي النفع الموجع لهم هذا الترتيب، ويجوز أن يراد بترتيبه مع ذلك التخصيص فيقال: {لهم} أي خاصة في ذلك الوقت ولا بعده، ولا كان في عداد ذلك من قبل لو كانوا يعقلون، وأما غيرهم ممن يصح وصفه بالإجرام لكونه من أهل الشرك الخفي فقد يشفع فيه من رباه من الشهداء والعلماء وعامة المؤمنين {من شركائهم} الذي زعموهم خاصة ليتبين لهم خلطهم وجهلهم المفرط في قولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وأما غيرهم فيقع منهم ما يسمى شفاعة تارة تصريحًا وأخرى تلويحًا كالشفاعة العامة من نبينا صلى الله عليه وسلم في الخلق عامة لفصل القضاء، وقوله صلى الله عليه وسلم في ناس بأعيانهم: «أصحابي إليّ إليّ، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: فسحقًا سحقًا» وقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام {ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 36] {شفعاء} ينقذونهم مما هم فيه وما يستقبلونه وإتيانه بصيغة جمع الكثرة يمكن أن يكون لا مفهوم له، لأن مورده رد اعتقادهم في قولهم السالف، ويمكن أن يفهم أنه قد يقع من بعض من عبدوه شفاعة، أو تلويح بها كقول عيسى عليه السلام {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118].
ولما ذكر حال الشفعاء معهم، ذكر حالهم مع الشفعاء فقال: {وكانوا} أي كونًا هو في غاية الرسوخ {بشركائهم} أي خاصة {كافرين} أي متبرئين منهم ساترين لأن يكونوا اعتقدوهم آلهة وعبدوهم جريًا على عادتهم فيما لا يغنيهم من العناد والبهت.
ولما كانت النفس ربما تشوفت إلى أنه هل يكون بعد إبلاسهم شيء آخر، قال مفيدًا له مهولًا بإعادة ما مضى: {ويوم تقوم الساعة} أي ويا له من يوم، ثم زاد في تهويله يقوله: {يومئذ يتفرقون} أي المؤمنون الذين يفرحون بنصر الله والكافرون فرقة لا اجتماع بعدها، هؤلاء في عليين، وهؤلاء في أسفل سافلين.
حكى لي بعض القضاة من أصحابي- عفا الله عنه- وهو يبكي أنه رأى منامًا مهولًا، وذلك أنه رأى القيامة قد قامت، والناس يحشرون- على ما وصف في الأحاديث- في صعيد واحد عرايا خائفين حائرين، يموج بعضهم في بعض، فإذا شخص مما له أمر قد أشار بسوط معه وخط به في الأرض فقسمهم قسمين فقال: هؤلاء مطيعون، وهؤلاء عصاة، قال: فكنت في العصاة، وفي الحال غاب عنا الطائعون، فلم تر منهم أحدًا ثم خط بذلك السوط مرة أخرى فقسمنا قسمين فقال: هؤلاء عصاة الأقوال، وهؤلاء عصاة الأفعال، قال: فكنت في عصاة الأفعال، ثم غاب في الحال عنا عصاة الأقوال، فلم نر منهم أحدًا وبقينا نحن منا الجالس ومنا المضطجع، ونحن قليل بالنسبة إلى عصاة الأقوال، فبينا نحن كذلك إذ جاء آتٍ إلى شخص إلى جانبي فأخذه من كعبه ثم نشطه فأخرج جلده بمرة واحدة كأنه جراب نزع عن شيء فيه يابس، فحصل لي من ذلك ذعر شديد فبينا أنا كذلك إذ آتٍ جاءني من ورائي، فألقى عليّ جوخة فجعلها على أكتافي وأدارها على أفخاذي فسترني بها ولكن على غير هيئة لبس المخيط، قال: واستيقظت وأنا على ذلك فقصصته على بعض الصالحين فقال: أحمد الله على كونك من عصاة الأفعال، وأخذ من ستري بالجوخة على تلك الهيئة أني أحج، فبشرني بذلك فحججت في ذلك العام- والله تعالى المسؤول في التوبة، فإنه الفعّال لما يريد {فأما الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم {وعملوا} تصديقًا لإقرارهم {الصالحات} أي كلها.
ولما تقدم هنا ذكر عمارة الأرض وإصلاحها للنبات ووعظ من جعلها أكبر همه بأنها لم تدم له ولا أغنت عنه شيئًا، ذكر أنه جزى من أعرض عنها بقلبه لاتباع أمره سبحانه أعظم ما يرى من زهرتها ونضرتها وبهجتها على سبيل الدوام فقال: {فهم} أي خاصة {في روضة} أي لا أقل منها وهي أرض عظيمة جدًا منبسطة واسعة ذات ماء غدق ونبات معجب بهج- هذا أصلها في اللغة وقال الطبري: ولا تجد أحسن منظرًا ولا أطيب نشرًا من الرياض.
{يحبرون} أي يسرون على سبيل التجدد كل وقت سرورًا تشرق له الوجوه، وتبسم الأفواه، وتزهو العيون، فيظهر حسنها وبهجتها، فتظهر النعمة بظهور آثارها على أسهل الوجوه وأيسرها.
قال الرازي في اللوامع: وأصله- أي الحبرة- في اللغة أثر في حسن، وقال غيره: حبره- إذا سره سرورًا تهلل له وجهه، وظهر فيه أثره.
{وأما الذين كفروا} أي غطوا ما كشفته أنوار العقول، {وكذبوا} عنادًا {بآياتنا} التي لا تصدق منها ولا أضوأ من أنوارها، بما لها من عظمتنا {ولقاء الآخرة} الذي لم يدع لبسًا في بيانه {فأولئك} أي البعداء البغضاء {في العذاب} أي الكامل لا غيره {محضرون} من أي محضر كان، بالسوق الحثيث، والزجر العنيف، فإذا وصلوا إلى مقره وكل بهم من يديم كونهم كذلك- لإفادة الجملة الاسمية الدوام، فلا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم. اهـ.